عنف الدولة وتهميش الشعب- قراءة في تاريخ مصر الحديث

المؤلف: أنور الهواري11.18.2025
عنف الدولة وتهميش الشعب- قراءة في تاريخ مصر الحديث

دوّن المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825م) شهادته الموثقة، والتي تمثلت في إدانة قاطعة للعنف السياسي الذي تبناه محمد علي باشا (1769-1849م) كمنهج راسخ لتشييد أركان الدولة الحديثة في مصر. هذا العنف، الذي تجذر وأضحى سمة أصيلة ودخيلة في صميم تكوين الدولة الحديثة، والتي لا تتوانى مطلقًا عن استحضار كل ما تملكه من صنوف العنف، سواء الخفي أو العلني، كلما استدعت الضرورة إعادة صياغة التصورات المجتمعية، وتحديدًا فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي الذي يربطها بالشعب المصري.

فعلى امتداد القرنين الماضيين، شهد العقد الاجتماعي تحولات في أشكاله الظاهرية من حقبة إلى أخرى، إلا أن مضمونه الجوهري بقي ثابتًا، وهو الإملاء وفرض الإرادة من جانب السلطة الحاكمة، والإذعان التام من جانب الشعب المحكوم. هكذا كانت الدولة في عهد الباشا وخلفائه، وهكذا استمرت في عهد الضباط، وكذا هي الحال في دولة 30 يونيو 2013م.

هذا العقد الاجتماعي، الذي تأسس على قاعدة العنف والإكراه، وصفه الأستاذ الإمام محمد عبده (1849-1905م) بعبارة بليغة، قائلًا: "الناس عبيد الحاكم". ومن منظوره الثاقب، فإن هذه العبودية، التي تتجلى في الإملاء من الحاكم والإذعان من الشعب، قد ترسخت جذورها مع نشأة دولة محمد علي باشا، واستمرت حتى بلغت مصر حد الإفلاس، واضطربت أوضاعها المالية، ووقعت تحت طائلة الدائنين الأجانب.

إزاء هذا الوضع، بدأ الخديوي إسماعيل (1830-1895م) يمنح الناس بعض المساحات المحدودة للتعبير عن آرائهم، وذلك بهدف الاستقواء بهم في مواجهة القوى الأوروبية التي تدخلت في شؤون حكمه بحجة حماية حقوق الدائنين. والواقع أن الخديوي إسماعيل، خدمة لمصالحه الشخصية فحسب، هو من حرض مجلس شورى النواب ضد الحكومة التي فرضتها عليه الدول الأوروبية.

إفلاس وعزل

مجلس شورى النواب قد شهد قبل ذلك عشر سنوات (1866-1877م) تجربة مماثلة لتلك التي تعيشها برلمانات الجمهورية الجديدة (2013-2023م)، حيث لا يجرؤ أحد على النطق أو الهمس بكلمة إلا بما يمليه عليهم الخديوي. كان النظام المتبع في برلمان الخديوي إسماعيل هو ذاته النظام السائد في برلمانات الجمهورية الجديدة، حيث يرسل الحكام مبعوثًا يوحي للنواب برغبات الحاكم، فيسارعون – بعد مداولات شكلية – إلى إقرار ما يريده الحاكم.

ولكن بعد عام الإفلاس (1876م)، بدأ الخديوي إسماعيل يحرض النواب على المعارضة، والتي بلغت أوجها مع تشكيل حكومة نوبار ذات التوجهات الأوروبية (1878م)، وتحول مجلس شورى النواب إلى برلمان شديد المعارضة في عام العزل (1879م).

لم يكتفِ الخديوي بتحريض النواب، بل استغل تأخر مرتبات ضباط الجيش، فحرضهم على التظاهر ضد الحكومة، ثم توجه إلى أعيان الريف وشجعهم على سلوك الدرب ذاته. ونتيجة لذلك، ظهرت صحافة قوية ومؤثرة، وتكون رأي عام متحفز ومهتم، وهو أمر لم يكن مسموحًا به على الإطلاق منذ تأسيس الدولة الحديثة في عام 1805م.

إلا أن إفلاس مالية البلاد، الذي فهمه المصريون – بفطنتهم السياسية – على أنه إفلاس لدولة الباشا وسلالته بأكملها، وكنهاية للعقد الاجتماعي الجائر القائم على أساس أن الناس عبيد للحاكم.

في هذه اللحظة، احتاج الخديوي إلى الناس، ولأول مرة في تاريخ الدولة الحديثة. فقبل ذلك، كان الحاكم هو المتفضل والمنعم، والشعب عبيد لإحساناته. ولكن فجأة، أصبح الحاكم مفلسًا ومديونًا ومهددًا في عرشه، وفاقدًا للقوة والسلطان، إلا بقوة الشعب وسلطانه. واضطر الخديوي إلى أن يبذر بذور الثورة بين المصريين، ولكن لمصلحته الخاصة.

إلا أن هذه البذور سرعان ما نبتت واستقلت عن مصدرها، وتحولت إلى ثورة حقيقية، ولكن لمصلحة الشعب لا لمصلحة الخديوي. ثورة ليست ضد أوروبا لصالح الاستبداد والاستعباد والفساد الخديوي، بل هي ثورة ضدهما معًا، ضد الخديوي المفلس المديون، وضد الغزاة الأوروبيين الدائنين. كانت الثورة العرابية بمثابة الشرارة الأولى لاستعادة الوعي العام لدى المصريين.

الكثير من المثقفين المصريين لا يلتفتون إلى تلك الفطنة التاريخية التي كان يتمتع بها الأستاذ الإمام محمد عبده، والتي تجلت بوضوح في كتابه غير المكتمل عن أحداث الثورة العرابية، والذي كتبه بتكليف من "مليك مصر المعظم عباس حلمي باشا الأفخم".

 نهايات فاجعة

وقد توقف الأستاذ الإمام عن إكمال الكتاب حرجًا من التعرض للدور الخسيس الذي لعبه الخديوي الضعيف محمد توفيق باشا (1852-1892م)، وهو نجل إسماعيل ووالد عباس حلمي الثاني (1874-1944م).

في بداية الجزء الذي كتبه الأستاذ الإمام، طرح فكرة عبقرية في دراسة ورصد وتحليل معنى التاريخ، فيقول في الصفحة 523 من المجلد الأول من الأعمال الكاملة إن: "أهالي مصر قبل 1293 هجرية – 1876م – كانوا يرون شؤونهم العامة، بل والخاصة، ملكًا لحاكمهم الأعلى، يتصرف فيها حسب إراداته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله أو خيانته وظلمه".

ثم يضيف: "ولا يرى أحد منهم – أي من المصريين – لنفسه الحق في أن يبدي رأيًا في إدارة البلاد، أو إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحًا لأمته". ثم يؤكد: "ولا يعلمون – يعني المصريين – من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم محكومون مُصرَفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم، وكانوا غاية في البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية". ويشير إلى أن البعثات إلى أوروبا لم يشعر الأهالي بشيء من ثمراتها المرجوة.

ويصف الأستاذ الإمام محمد عبده مصير من يخرج عن هذا الإذعان بواحدة من ثلاث نهايات مأساوية: النفي عن الوطن، أو إزهاق الروح، أي القتل، أو التجريد من المال، أي المصادرة. وفي الصفحة 527 من المرجع المذكور أعلاه، يقول: "ظل الناس معه – أي مع تأسيس مجلس شورى النواب 1866م – على اعتقادهم أنهم عبيد للحاكم لا رأي لهم معه ولا أمر".

ثم تتجلى الفطنة التاريخية – أي جوهر علم التاريخ النقدي – بأبهى صورها عند الأستاذ الإمام عندما احتدم النقاش عام 1902م بمناسبة مرور قرن هجري كامل على تولي محمد علي باشا ورواج الروايات التي تنسب إليه كل تحديث وحداثة شهدتها مصر.

قوى حيوية كامنة

هنا نرى الأستاذ الإمام يدعو إلى فكرة سديدة، وهي أن يبحث الباحثون – صفحة 833 من المرجع المذكور – في حالة مصر كيف كانت عندما تولاها محمد علي باشا، وكيف كان يمكن أن تصير إليه أوضاع البلاد لو سارت في مسارها الذي سبق تولي الباشا، وكيف أن الباشا قد طمس معالم مصر واستبدل بها كيانًا آخر.

وفي الصفحة 834 يقول: إن تعدد قوى المماليك الذين كانت لهم السلطة الفعلية في البلاد، والذين كان الخصام فيما بينهم ديدنهم، والحرب فيما بينهم عملهم، ألجأتهم واضطرتهم إلى استرضاء المصريين وكسبهم إلى جانب كل فريق منهم ضد الآخر.

ويضيف أن قوى المماليك كانت أشبه بأحزاب سياسية تتنافس على السلطة، ولم يكن لصراعها أن يحسم إلا بأن يكسب هذا الحزب أو ذاك منهم الجانب الأكبر من القوى الشعبية المؤثرة إلى صفه، ولهذا "كنت ترى في البلاد المصرية بيوتًا كثيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم".

بهذا المعنى، الذي يشير إليه الأستاذ الإمام، فإن مصر – قبل محمد علي باشا – كانت تسير وتتطور في الاتجاه الصحيح، والدليل على ذلك، كما في الصفحة 835، أنه عندما جاء الجيش الفرنسي، أخذت القوى الحيوية الكامنة في البلاد تظهر، حتى اضطر نابليون أن يسير في البلاد بمشورة أهلها.

وهذا المصطلح، "القوى الحيوية الكامنة في البلاد"، تعبير نابغ من الأستاذ الإمام، فقوى المماليك خارت وسقطت عند لقاء الفرنسيين في قتال سريع – مثل قتال 1967م – لم يستغرق غير ساعات، وانتهت المعارك بهزيمة لطرف وانتصار لآخر.

إلا أن المصريين كانوا هم القوى الحيوية الكامنة التي تخلقت على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث ضعفت سلطة القمع المركزي، حتى لجأت إلى المصريين تسترضيهم وتستقوي بهم بعضها ضد بعض. هذه القوى الحيوية الكامنة هي التي فارت ثم ثارت ضد الغزاة، واضطرت نابليون إلى اصطناع شكل من الديمقراطية الاستعمارية.

هذه القوى الحيوية الكامنة هي التي – بعد رحيل الفرنسيين – ثارت ضد السلطتين التقليديتين: السلطة السيادية العليا للعثمانيين، وكذلك السلطة الفعلية الواقعية للماليك، ثم عبرت عن نفسها – بقوة – حين اختارت محمد علي باشا وفق شروط سياسية محددة، وفرضت اختياره على السلطان، وأنهت – عمليًا وبضربة واحدة – سيادة السلطتين وحكم المماليك.

هذه القوى الحيوية الكامنة هي التي اجتهد محمد علي باشا، وهو يؤسس الدولة الحديثة، في محوها محوًا تامًا، ونجح في ذلك إلى حد بعيد، فلم يسمع العالم همس المصريين طوال ثلاثة أرباع قرن، حتى أفلس حفيده إسماعيل في عام 1876م، واضطرته الظروف إلى رفع القبضة الحديدية عن القوى الحيوية الكامنة في البلاد، فبدأت هذه القوى تسترد أنفاسها، وتتمرن على الاشتباك مع الواقع، ثم تحلت بفضائل الشجاعة السياسية بالقدر الكافي لتتبلور الثورة العرابية في الفترة 1881-1882م.

انحراف عن المسار

وخلاصة وجهة نظر الأستاذ الإمام، أن مصر – قبل محمد علي باشا – كانت على درجة من التطور تنتظر من يجيء "فيضم تلك العناصر الحية بعضها إلى بعض، ويؤلف منها أمة، تحكمها حكومة منها، ويأخذ في تقوية مصباح العلم بينها، حتى ترتقي بحكم التدرج الطبيعي، وتبلغ ما أعدته لها تلك الحياة الأولى".

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف طمس محمد علي باشا معالم مصر، وكيف استبدل بها كيانًا آخر، وكيف انحرف بها عن مسارها الطبيعي؟ والجواب عند الأستاذ الإمام هو العنف المادي والأدبي والظاهر والباطن والسياسي والعقابي بالقدر الكافي لكي يقتل في المصريين فضائل الشجاعة السياسية. فإذا ماتت فيهم الشجاعة السياسية – تحت القهر الممنهج – خضعوا لكل ذي سلطان، سواء كانت له عبقرية الباشا، أو كان خاليًا من الذكاء ومتجردًا من كل قيمة سياسية حقيقية.

الأستاذ الإمام يسأل: ما الذي صنعه محمد علي باشا؟ ثم يجيب: لم يستطع أن يحيي، لكنه استطاع أن يميت.

ثم يشرح الأستاذ الإمام ما يستحق أن نتوقف عنده مليًا، ونحن ندرس تاريخ الدولة الحديثة وتسلُّطها على المصريين في كل عهودها، ثم ونحن ندرس دكتاتورية الجمهورية الجديدة على وجه الخصوص، فيقول: "كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش، ويستعين بمن يستميله من الأحزاب، على إعدام كل رأس من خصومه.

سحق الخصوم

ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر – أي حليف سياسي جديد – على حلفائه الذين كانوا معه من قبل والذين أعانوه على الخصم الزائل الذي أعدم رأسه، ثم يمحو الخصم الجديد، وهكذا. حتى إذا انتهى من سحق الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع فيها رأسًا يكمن فيه ضمير (أنا) حتى أجهز عليه. ثم اتخذ من مزاعم الحفاظ على الأمن ذريعة لجمع السلاح من الأهالي".

ثم يضيف الأستاذ الإمام: "وتكرر ذلك منه مرارًا، حتى فسد بأس الأهالي، ثم زالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفس بعض أفرادها".

ثم يقول عن قمع الباشا – وهو أساس القمع الكامن في الدولة المصرية حتى اليوم والغد -: "فلم يُبقِ في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه عن بدنه، أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه".

ثم في الصفحة 863 يختتم الأستاذ الإمام بالقول: "أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى، كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم، حتى انحط الكرام، وساد اللئام، ولم يبق في البلاد من الناس غير آلات تحت يديه، يستخدمها في جباية الأموال، وفي جمع العساكر على أي طريقة وبأي وجه".

ثم يوضح: "فمحا بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة، من رأي، وعزيمة، واستقلال نفس، ليجعل البلاد المصرية جميعًا إقطاعًا واحدًا له ولأولاده".

انتهى الاقتباس، وهو يسلط الضوء على حجم التشابه الجلي بين بدايات الدولة الحديثة وما وصلت إليه في الوقت الراهن، فالحاضر لم يأتِ من فراغ، ولم يبتكر من العدم، إنما هو إعادة إنتاج للكثير من مساوئ الدولة الحديثة دون أن يصاحبها شيء من محاسنها.

والسؤال الآن: كيف كانت فضائل الشجاعة السياسية قبل محمد علي باشا وتأسيس الدولة الحديثة؟

الجواب عند عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825م) في مقال الخميس المقبل بمشيئة الله تعالى.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة